ليس من الصعب أن تعرف من هم الرجال إذا عرفت ما هو الحق ما دامت الرجال تُعرف بالحق، فالحق أبلج لا يغالبه الهوى ولا تخالطه حظوظ النفوس ولا للمناصب يشتهي ولا للمال ينقاد، و بالرغم من طبيعة الحق المنشقة من سطوع الشمس إذ بزغت لكننا كثيرا ما نحار في متاهات تعظيم الشخصيات ويقتلنا التقليد المميت لعظيم نعمة البصيرة فنسقط في وكر تعريف الحق بالرجال، بل قد يقوم البعض بثني قنوات الحق وخنق أصوات المعارضة لتوافق مسلك شيخهم ليقولوا كذا قال الحق، وبدراية أو غفلة منّا نُجنّد أنفسنا للباطل وكل ظننا أنه الحق.
ولدى الوقوف على تجربة الدكتور الفقيه عبد الله عزّام الفريدة نجده رجلاً عرف الحق فسار عليه وطبّقه وأدّى جهده في نشره فبات يُعرف زمنه بزمن الرجال عندما تحمّل كافة تبعات إرث الأنبياء على عاتقه فكان عالماً متقنا لصنعته مدركا لخطورة فلسفة الأنصاف المنتشرة حولنا فما أفسد الأبدان إلا نصف متطبب وما أفسد الأديان إلا نصف متكلم، محققا معادلة العالم المجاهد الصعبة في الزمن الهش وهو ما أشار إليه الإمام ابن القيّم " بأنّ الله جعل قيام الدين بالعلم والجهاد "، فهما ركيزتا الأمة التي بهما تفهم مقاصد ربها لعمارة الأرض وتسعى لعزتها وكرامتها في قيادة العالم والشعوب لعبادة الواحد الفرد.
ولم يكن د.عبد الله عزّام قد جاء ببدعة من الأمر يوم أن خلط مداد العلم بدماء الجهاد وسعى لتسليط الضوء على الفريضة المُغيبة بين علماء المسلمين وفقهائهم قبل عامتهم، فصحابة الحبيب المصطفى هم أسياد العلم وقادة الجهاد كانوا تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في ساحات الوغى فلم يبقَ في المدينة إلا ذوي الحاجات وأصحاب الأعذار، والتاريخ زاخر بالعلماء المجاهدين فالمجاهد نور الدين محمود زنكي كان فقيها على مذهب أبي حنيفة،والإمام العالم أسد بن الفرات قاضي القيروان وصاحب الأسدية في فقه المالكية وأحد رواة الموطأ عن مالك رحمه الله،خرج لقيادة جيش المسلمين بنفسه لفتح صقلية جنوب إيطاليا و معه عشرة آلاف، وانتصروا على مائة ألف في معركة بلاطة الشهيرة، فاستمر الإسلام في هذه المدينة 272 سنة وهو شيخ قارب السبعين من عمره ورحل إلى ربه مرابطا مجاهدا على أرض صقلية، فكم خسرت أمتنا بتخلي العلماء عن دورهم في قيادة الجهاد!! فأصبح صغائر الصبيان فقهاء يستحلون الدماء و يفتون في تكفير العباد يوم أن رضيَ أهل العلم أن يكونوا تابعين لا متبوعين، فحلت الرويبضة مكان ورثة الأنبياء " قيل وما الرويبضة يا رسول الله ؟ قال : ( الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ) ".
إن إسقاط حق العلماء بريادة الجهاد وتأصيل مفاهيمه وفقهه بين العالمين يطمس هويتهم ويجعلهم غرباء عن المتتلمذين بين يديهم في الوقت الذي تُنتهك فيه حرمات الأمة وتتكالب عليها الخطوب وتتزاحم الهموم ينظر طلبة العلم وعامة الناس للعلماء كأصحاب دعوة تخدم الجهاد لتكشف عن النفوس غمّها وحزنها فتؤصّل لمعاني العزة والنصرة والقوة وتُصغّر من شأن الأعداء دون تخدير ولا عزل للذهن عن الواقع، فعندما يتنحى العالم عن دوره العظيم من أين يستقي الناس علمهم ؟ أمِن سراديب الضعيف والموضوع والتفاسير الشاذّة والفتاوى المتطرفة أو المفرّطة دون استدلال؟! وما هذا وذاك إلا بابتلائنا بفصل العلم عن الجهاد.
ولا يدور في خلد قارئ بأنها دعوة لكل عالم دين إسلامي بأن يكونَ جميعهم الدكتور.نزار ريّان أو الدكتور.عبد الله عزّام فإنّ ذلك اصطفاء و إن طُلب، إنّما نصح المحبين الفقراء إلى علماء الأمة الأسياد المخلصين أن يصدعوا بالحق ولا يكتموا علماً وعوه وأن يقفوا مع نبض أمتهم بالانتفاضة على أعدائها وأن يتّقوا علاّمَ الغيوب في أمانة عظيمة حملوها طوعا لا جبرا وألاّ يخشوا في الله لومة لائم، وعلى الأمة أن تحرص على التواصل مع علمائها قدر المستطاع وألا يتطاولوا عليهم بالتهجّم أو التسفيه وإن اختلفوا معهم أو احترقوا غيرةً عليهم من شدة صمتهم فلعلهم لهم عذرهم، فإن كانت نصرة البلاد والعباد بالجهاد فنصرة الجهاد بالعلم.
رحمك الله شيخ الفقه د.عبد الله عزّام فما زالت كلماتك التي أوصيت بها ترنّ في مسامعنا كلما أضحت أمتنا من صباح دمٍ عراقيٍّ فلسطينييٍّ أو مسلمٍ غريب قولك : "يا علماء الإسلام، تقدموا لقيادة هذا الجيل الراجع إلى ربِّه، ولا تَنْكلوا، وتركنوا إلى الدنيا، وإيَّاكم وموائد الطواغيت، فإنَّها تظلم القلوب، وتميت الأفئدة، وتحجزكم عن الجيل، وتحول بين قلوبهم وبينكم".