وأمام هذه التطورات العلمية المتسارعة والرهيبة، بحيث لا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نتابع هذه التطورات بشكل دقيق فضلاً عن استيعابها وتوظيف منتوجاتها بما يخدم الأمة والمستقبل.
إننا نرى أن الطريق الوحيد والفعال للحفاظ على هوية الأمة تجاه هذه التطورات وقدرة الإنسان الفرد والجماعة السريعة على ذلك لا يتحقق إلا ب (حضور النهضة) في الكيان المجتمعي برمته. وحضور النهضة في المجتمع العربي والإسلامي يعني:
1ـ حضور الوعي وتكثيف آلياته في حياة الإنسان. حتى تتأسس الشروط الملازمة للانطلاق في رحاب الوعي وآفاقه بعيداً عن أطر التقليد الضيقة أو خيارات التبعية المذلة. ذلك الوعي الذي ينهي كل مفردات التقليد الأعمى من حياة الإنسان، فتصبح ذاته ذاتاً عارفة متحركة باستمرار نحو الآفاق المعرفية المرجوة..
2ـ الرغبة الحقيقية في تطوير الذات وتوسيع آفاقها المعرفية، والاستفادة من معارف الآخرين وإنجازاتهم. والاعتقاد الجازم من أن الإنسان مهما علا كعبه، فهو لا يمتلك المعرفة المطلقة والحقيقة الخالصة. بل معرفته معرفة نسبية تغتني بالحوار والتفاعل والتثاقف.
والبداية في أي حوار تكون في احترام كل طرف لنظيره، وتسليمه الضمني أن ما لدى الأنا لا يعلو على ما لدى الآخر، والعكس صحيح بالقدر نفسه. فالحوار لا يعرف العلاقة بين الأعلى والأدنى، بل العلاقة بين الأكفاء. هؤلاء الذين يعرفون أن العقل هو أعدل الأشياء توزعاً بين الناس كما قيل عن ديكارت الفيلسوف، وناتج الحوار هو ناتج الفعل الجدلي، تغيير نوعي في الأطراف المتحاورة، المتقابلة، المتعارضة، تغيير يجعل من نقطة النهاية مخالفة لنقطة البداية حتماً. ذلك لأن فعل الحوار نفسه كفعل الجدل، يؤلف بين عناصره المتقابلة الواقعة بين أطرافه المتعارضة ويصوغ منها ما يستوعب الأطراف كلها ويتجاوزها في آن، صانعاً بذلك بداية أخرى لحوار آخر لا يكف عن التحول والتولد.
3ـ استحثاث الجهود الداخلية وعوامل النمو الذاتية في الجسد العربي والإسلامي، حتى تتولد حركية دائمة، وسيرورة متجهة نحو التطوير والتحديث، لتجاوز الحال إلى المؤمل، والواقع إلى الطموح. والتجربة الإسلامية التاريخية، تكشف لنا بوضوح أن الأمة أو المجتمع الذي يتمسك بأسباب العمران الاجتماعي والحضاري سيصل إلى غايته، ويصبح مجتمعاً حضارياً تتوافر فيه كل الخصائص ومجتمع التقدم.
والمجتمع أو الأمة التي تهمل أسباب العمران وتبتعد عن عوامل الرقي، تكون دائماً دون الأمم كلها، وتحتاج إلى الآخرين في كبريات الأمور وصغائرها. وبالتالي فالعالم العربي والإسلامي اليوم، هو بحاجة إلى التحديث والانخراط الفعلي في عصر العلم والثقافة الحديثة، كما هو بحاجة إلى الهوية والذات الحضارية..